فصل: أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: كُلُّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: في الْكِنَايَةِ:

(وَأَمَّا) الْكِنَايَةُ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ كِنَايَةٌ بِنَفْسِهِ وَضْعًا، وَنَوْعٌ هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا شَرْعًا فِي حَقِّ النِّيَّةِ.

.أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: كُلُّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ:

فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ، أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ خَلِيَّةٌ بِرِئِيَّةٍ بَتَّةٌ أَمْرُكِ بِيَدِكِ اخْتَارِي اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ سَرَّحْتُكِ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ فَارَقْتُكِ خَالَعْتكِ- وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ- لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْكِ أَنْتِ حُرَّةٌ قَوْمِي اُخْرُجِي اُغْرُبِي انْطَلِقِي انْتَقِلِي تَقَنَّعِي اسْتَتِرِي تَزَوَّجِي ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ الْحَقِي بِأَهْلِك وَنَحْوُ ذَلِكَ.
سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةً؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمَ لَفْظٍ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ السَّامِعِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُسْتَتِرَةُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ: حَرَامٌ يَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: خَلِيَّةٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخُلُوِّ فَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عَنْ الزَّوْجِ وَالنِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ بَرِيئَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ وَقَوْلُهُ: بَتَّةٌ مِنْ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ فَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ عَنْ الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ يُحْتَمَلُ فِي الطَّلَاقِ.
وَيُحْتَمَلُ فِي أَمْرٍ آخَرَ مِنْ الْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: اخْتَارِي يَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ: اعْتَدِّي أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعَدَدِ أَيْ اعْتَدِّي نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكِ وَقَوْلُهُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَمْرٌ بِتَعْرِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ طَهَارَتُهَا عَنْ الْمَاءِ وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الِاعْتِدَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ لَأُطَلِّقكِ وَقَوْلُهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاحِدَةُ صِفَةَ الطَّلْقَةِ أَيْ: طَالِقٌ وَاحِدَةً أَيْ: طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ التَّوْحِيدَ فِي الشَّرَفِ أَيْ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ فِي الشَّرَفِ، وَقَوْلُهُ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ لِزِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ سَرَّحْتُك يَعْنِي خَلَّيْتُكِ يُقَالُ: سَرَّحْتُ إبِلِي وَخَلَّيْتهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَقَوْلُكَ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِك اسْتِعَارَةٌ عَنْ التَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ إذَا أُلْقِيَ حَبْلُهُ عَلَى غَارِبِهِ فَقَدْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، وَقَوْلُهُ فَارَقْتُكِ يَحْتَمِلُ الْمُفَارَقَةَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْمُفَارِقَةَ عَنْ الْمَكَانِ وَالْمَضْجَعِ وَعَنْ الصَّدَاقَةِ، وَقَوْلُهُ خَالَعْتكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ يَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْهَجْرِ عَنْ الْفِرَاشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ يَحْتَمِلُ مِلْكَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ مِلْكَ الْبَيْعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي قَدْ طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْكِ أَيْ: لَا أَتَزَوَّجُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك أَيْ: لَا أَطَؤُكِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ وَقَوْلُهُ: أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْخُلُوصَ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلُوصَ عَنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: قُومِي وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي يَحْتَمِلُ أَيْ: افْعَلِي ذَلِكَ لِأَنَّكَ قَدْ طَلُقْتِ.
وَالْمَرْأَةُ إذَا طَلُقَتْ مِنْ زَوْجِهَا تَقُومُ وَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَتَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ، وَيَحْتَمِلُ التَّقَيُّدَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ: اُغْرُبِي عِبَارَةٌ عَنْ الْبُعْدِ أَيْ: تَبَاعَدِي فَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ مِنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ مِنْ الْفِرَاشِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: انْطَلِقِي وَانْتَقِلِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهَا تَنْطَلِقُ وَتَنْتَقِلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا طَلُقَتْ وَيَحْتَمِلُ الِانْطِلَاقَ وَالِانْتِقَالَ إلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي أَمْرٌ بِالتَّقَنُّعِ وَالِاسْتِتَارِ فَيَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهَا إذَا طَلُقَتْ يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا بِالْقِنَاعِ وَسَتْرُ أَعْضَائِهَا بِالثَّوْبِ عَنْ زَوْجِهَا، وَيَحْتَمِلُ تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي أَيْ: كُونِي مُتَقَنِّعَةً وَمَسْتُورَةً لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُ أَجْنَبِيٍّ عَلَيْكِ، وَقَوْلُهُ: تَزَوَّجِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذْ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ تَزَوَّجِي إنْ طَلَّقْتُكِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ.
وَقَوْلُهُ الْحَقِي بِأَهْلِك يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْحَقُ بِأَهْلِهَا إذَا صَارَتْ مُطَلَّقَةً، وَيَحْتَمِلُ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَإِذَا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَ الطَّلَاقِ فَقَدْ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا عِنْدَ السَّامِعِ، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: سَرَّحْتُكِ، وَفَارَقْتُكِ، وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: قَوْلُهُ: سَرَّحْتُكِ وَفَارَقْتُكِ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِمَا إلَّا بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمَا صَرِيحَانِ لَا يَفْتَقِرَانِ إلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، وَقَوْلُهُ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ مِنْ الْكِنَايَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ نَوَى.
(أَمَّا) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
وَالتَّسْرِيحُ هُوَ التَّطْلِيقُ وقَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَالْمُفَارَقَةُ هِيَ التَّطْلِيقُ، فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلَاقَ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ: الطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُكِ كَانَ صَرِيحًا فَكَذَا إذَا قَالَ: سَرَّحْتُكِ أَوْ فَارَقْتُكِ.
(وَلَنَا) أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ وَمَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ظَاهِرَ الْمُرَادِ، بَلْ يَكُونُ مُسْتَتِرَ الْمُرَادِ وَلَفْظُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ قَيْدِ النِّكَاحِ يُقَالُ: سَرَّحْتُ إبِلِي وَفَارَقْتُ صَدِيقِي فَكَانَ كِنَايَةً لَا صَرِيحًا فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَتَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِمَا: إنَّ السَّرَاحَ وَالْفِرَاقَ طَلَاقٌ، لَكِنْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لَا صَرِيحًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّرِيحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَلَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ الْوَاحِدَةَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهَذَا شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ أَعْطَيْته جَزِيلًا وَضَرَبْتُهُ وَجِيعًا أَيْ: عَطَاءً جَزِيلًا وَضَرْبًا وَجِيعًا؛ وَلِهَذَا يَقَعُ الرَّجْعِيُّ عِنْدَنَا دُونَ الْبَائِنِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ وَاحِدَةً بِالْوَقْفِ وَلَمْ يُعْرِبْ.
فَأَمَّا إذَا أَعْرَبَ الْوَاحِدَةَ فَلَا خِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ إنْ رَفَعَهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ صِفَةَ الشَّخْصِ وَإِنْ نَصَبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَهَا وَلَمْ يُعْرِبْهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَوْضِعَ الرَّفْعِ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ أَيْ: أَنْتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ النِّكَاحِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: إنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَهْتَدُونَ إلَى هَذَا وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ إعْرَابٍ وَإِعْرَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ لَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجَوَاهُ.
وَهَلْ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ؟ فَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ وَإِمَّا إذَا كَانَتْ حَالَةَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ، وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ وَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ قَضَاءً.
وَإِنْ كَانَتْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ أَوْ حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْكِنَايَاتِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: فِي قِسْمٍ مِنْهَا لَا يُدَيَّنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ لَا فِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ وَلَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ، وَفِي قِسْمٍ مِنْهَا يُدَيَّنُ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ وَلَا يُدَيَّنُ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ، وَفِي قِسْمٍ مِنْهَا يُدَيَّنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا.
(أَمَّا) الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ اخْتَارِي اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ وَالْحَالُ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ إنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ كَمَا تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَحَالُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ، لَكِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَلَا لِلتَّبْعِيدِ فَزَالَ احْتِمَالُ إرَادَةِ الشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ فَتَعَيَّنَتْ الْحَالَةُ دَلَالَةً عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَثَبَتَتْ إرَادَةُ الطَّلَاقِ فِي كَلَامِهِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الظَّاهِرِ كَمَا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْوَثَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
(وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّانِي فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ أَيْضًا خَلِيَّةٌ بَرِيئَةٌ بَتَّةٌ بَائِنٌ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَمَا تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الشَّتْمِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ مِنْ الْخَيْرِ، بَرِيئَةٌ مِنْ الْإِسْلَامِ، بَائِنٌ مِنْ الدِّينِ، بَتَّةٌ مِنْ الْمُرُوءَةِ، حَرَامٌ أَيْ مُسْتَخْبَثٌ، أَوْ حَرَامٌ الِاجْتِمَاعُ وَالْعِشْرَةُ مَعَكِ.
وَحَالُ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَيَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَبَقِيَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا عَنِيَ بِهِ غَيْرَهُ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَالظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَيُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ، وَالْحَالُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ فَيَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ لَا التَّبْعِيدِ وَلَا الشَّتْمِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ خَمْسَةً أُخْرَى: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ فَارَقْتُكِ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ بِنْتِ مِنِّي لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الشَّتْمَ كَمَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَيَقُولُ الزَّوْجُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ لِشَرِّكِ وَفَارَقْتُكِ فِي الْمَكَانِ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِي مَعَكِ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وَمَا أَنْتِ عَلَيْهِ وَلَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنَّكِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ أَتَمَلَّكَكِ وَبِنْتِ مِنَى لِأَنَّك بَائِنٌ مِنْ الدِّينِ أَوْ الْخَيْرِ وَحَالُ الْغَضَبِ يَصْلُحُ لَهُمَا، وَحَالُ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا فَالْتَحَقَتْ بِالْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
(وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَبَقِيَّةُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَتَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْعِدُ الزَّوْجَةَ عَنْ نَفْسِهِ حَالَ الْغَضَبِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَكَذَا حَالَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ فَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فَإِذَا قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَالظَّاهِرُ لَا يُخَالِفُهُ فَيُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ قَبِلُوهَا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهَا لِأَنَّهَا هُنَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَهْلِهَا وَتَحْتَمِلُ التَّبْعِيدَ عَنْ نَفْسِهِ وَالنَّقْلَ إلَى أَهْلِهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ.
وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ مُحْتَمَلًا، وَسَوَاءٌ قَبِلَهَا أَهْلُهَا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ التَّصَرُّفِ هِبَةً فِي الشَّرْعِ لَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَبُولُ شَرْطَ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَأَهْلُهَا لَا يَمْلِكُونَ طَلَاقَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبُولِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: وَهَبْتُكِ لِأَبِيكِ أَوْ لِأُمِّكِ أَوْ لِلْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَتُسَلَّمُ إلَيْهِمَا وَيَمْلِكُهَا الْأَزْوَاجُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَإِنْ قَالَ: وَهَبْتُكِ لِأَخِيكِ أَوْ لِأُخْتِكِ أَوْ لِخَالَتِكِ أَوْ لِعَمَّتِكِ أَوْ لِفُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُرَدُّ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ عَادَةً، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَسْت- لِي بِامْرَأَةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: مَا أَنَا بِزَوْجِكِ، أَوْ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ هَلْ لَك امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: لَا فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ جَمِيعًا وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَى وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَتَزَوَّجْك وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ حُجَّةٌ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى بِالِاتِّفَاقِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَوْ لَا مَرْأَةَ لِي أَوْ مَا أَنَا بِزَوْجِك كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ قِيَامِهَا فَيَكُونُ كَذِبًا فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا إذَا قَالَ: لَمْ أَتَزَوَّجْكِ أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي قَدْ طَلَّقْتُكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ، وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ لَمْ أَتَزَوَّجْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ نَفْيُ فِعْلِ التَّزَوُّجِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى النَّفْيِ تَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَاجَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانِ قَدْ يَتَزَوَّجُ بِمَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى تَزَوُّجِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ أَفْلِحِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَفْلِحِي بِمَعْنَى اذْهَبِي فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَفْلِحْ بِخَيْرٍ أَيْ: اذْهَبْ بِخَيْرٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا كَذَا هَذَا وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: أَفْلِحِي أَيْ: اظْفَرِي بِمُرَادِكِ يُقَالُ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إذَا ظَفِرَ بِمُرَادِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَرَادُهَا الطَّلَاقَ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَلَوْ قَالَ: فَسَخْتُ النِّكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ نَقْضُهُ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْإِبَانَةِ.
وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُ لَك طَلَاقًا.
وَقَالَ أَرَدْتُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي يَدِك لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ، وَهِبَةُ الطَّلَاقِ مِنْهَا تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَجَعْلُ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِزَالَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا هُوَ أَنْ يُجْعَلَ إلَيْهَا إيقَاعُهُ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَهَبْتُ لَك طَلَاقَكِ أَيْ: أَعْرَضْتُ عَنْ إيقَاعِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقَالَتْ لَهُ: هَبْ لِي طَلَاقِي تُرِيدُ: أَعْرِضْ عَنْهُ فَقَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَك طَلَاقَك يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بِهِ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: تَرَكْتُ طَلَاقَكِ أَوْ خَلَّيْتُ سَبِيلَ طَلَاقِكِ، وَهُوَ يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَقَعَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَاقِ وَتَخْلِيَةَ سَبِيلِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِهِ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَعْرَضْتُ عَنْ طَلَاقِكِ أَوْ صَفَحْتُ عَنْ طَلَاقِكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالصَّفْحُ هُوَ الْإِعْرَاضُ فَلَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ.
وَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَى، مِثْلُ قَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك أَوْ قَالَ لَهَا: أَطْعِمِينِي أَوْ اسْقِينِي وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَبَيْنَ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي وَكُلِي، أَوْ قَالَ اذْهَبِي وَبِيعِي الثَّوْبَ، وَنَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ اذْهَبِي ذُكِرَ فِي اخْتِلَاف زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَفِي قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ طَلَاقًا.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ: أَحَدَهُمَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَالْآخَرَ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيَلْغُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَيَصِحُّ مَا يَحْتَمِلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبِي مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ كُلِي أَوْ بِيعِي لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اذْهَبِي لِتَأْكُلِي الطَّعَامَ وَاذْهَبِي لِتَبِيعِي الثَّوْبَ، وَالذَّهَابُ لِلْأَكْلِ وَالْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَوْ نَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ بَوَائِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ ثَلَاثًا إلَّا فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ: غَلِيظَةٌ وَخَفِيفَةٌ، فَالْخَفِيفَةُ هِيَ الَّتِي تُحِلُّ لَهُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بِدُونِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَالْغَلِيظَةُ مَا لَا تُحِلُّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَاسْتَحْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَدْتَ ثَلَاثًا فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِحْلَافِ مَعْنًى.
وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَالْخَفِيفَةَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى إحْدَى نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَقَعُ مَا نَوَى.
وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْحُرْمَةَ وَالْبَيْنُونَةَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: خَفِيفَةٌ وَغَلِيظَةٌ وَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ، وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَإِنَّمَا اُحْتُمِلَ الثَّلَاثُ مِنْ حَيْثُ التَّوَحُّدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا تَوَحُّدَ فِي الِاثْنَيْنِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ عَدَدٌ مَحْضٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ بِالثِّنْتَيْنِ، وَالْحَاصِلَ بِالْوَاحِدَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحِلُّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ؟ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِمَا بَيْنُونَةً خَفِيفَةً وَحُرْمَةً خَفِيفَةً كَالثَّابِتِ بِالْوَاحِدِ فَلَا يَكُونُ هاهنا قِسْمٌ ثَالِثٌ فِي الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي الِاثْنَتَيْنِ يَقَعُ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ فِي الْأَمَةِ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا فَكَانَ الثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، وَقَالُوا: لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي اثْنَتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَا كُلَّ جِنْسِ طَلَاقِ الْحُرَّةِ بِدُونِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ فَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنُونَةٌ غَلِيظَةٌ بِدُونِهَا، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ثَلَاثًا لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا رَجْعِيَّةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالثَّلَاثِ فَلَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الثَّلَاثِ وَكَذَا قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجْعِيٌّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ.
وَكَذَا لَوْ نَوَى بِهَا اثْنَتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ عَدَدٌ مَحْضٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قِرْطَاسٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ أَرْضٍ:

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قِرْطَاسٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ كِتَابَةً مُسْتَبِينَةً لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ؛ فَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْتُبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَدْ يَكْتُبُ لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ كُتِبَتْ كِتَابَةٌ غَيْرُ مُسْتَبِينَةٍ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ عَلَى الْهَوَاءِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ مَا لَا تَسْتَبِينُ بِهِ الْحُرُوفُ لَا يُسَمَّى كِتَابَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَإِنْ كَتَبَ كِتَابَةً مَرْسُومَةً عَلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ وَالرِّسَالَةِ مِثْلُ: أَنْ يَكْتُبَ أَمَّا بَعْدَ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ أَصْلًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: نَوَيْت طَلَاقًا مِنْ وَثَاقٍ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخِطَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَلِّغُ بِالْخِطَابِ مِرَّةً وَبِالْكِتَابِ أُخْرَى وَبِالرَّسُولِ ثَالِثًا؟، وَكَانَ التَّبْلِيغُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَالتَّبْلِيغِ بِالْخِطَابِ فَدَلَّ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَاطَبَهَا بِهَا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَضْرَةِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ فَإِذَا قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ، ثُمَّ إنْ كَتَبَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ وَلَمْ يَعْقِلْهُ بِشَرْطٍ بِأَنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ كِتَابَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كِتَابَةَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى طَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّلَفُّظِ بِهَا.
وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِأَنْ كَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطِ الْوُصُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ، وَقَالُوا فِيمَنْ كَتَبَ كِتَابًا- عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَكَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ مَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَأَنْفَذَ الْكِتَابَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ كَلَامٌ يُسَمَّى كِتَابًا وَرِسَالَةً- وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إلَيْهَا، فَإِنْ مَحَا مَا فِي الْكِتَابِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ كَلَامٌ يَكُونُ رِسَالَةً لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَإِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُ الْكِتَابِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ لَا يُسَمَّى كِتَابًا فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ.